لو ألقينا نظرة فاحصة على كل موجات الاحتجاج الشعبي التي نشبت في فلسطين بعد الربيع العربي، فسنجد أنّ كلمة السر التي تصلح لها جميعًا هي الاحتواء. سواء كانت موجهة ضد إسرائيل والمفاوضات، أو سياسيات سلام فيّاض الاقتصاديّة، أو واقع الانقسام الذي يقترب من التجذّر، كلّ المحاولات لإلقاء حجر في الماء الراكد انتهى بها المطاف إلى أن ضمرت وتجوّفت وذهبت أدراج الرياح. أثبتت المعادلات الأمنيّة التي أرستها اسرائيل سواء بطريقة مباشرة (الضفّة) أم غير مباشرة (غزّة) فعاليّتها وقدرتها على كبح جماح الشارع وقت الضرورة.
مدفوعة بغريزة البقاء، ورافضة ترك المساحة للشارع ومن فيه، قامت كلّ من الحكومة في غزّة والضفة بسد الطريق أمام المحاولات الباكرة للالتحاق بركب الانتفاضات العربيّة. لم يسمح للوقفات الداعمة لانتفاضة تونس ومصر في غزّة، على بساطتها وقلّة عدد المشاركين فيها، لم يسمح لها بأن تمر مرور الكرام رغم أنّ الحكومة سارعت، بعد سقوط مبارك، إلى إخراج المناصرين إلى الشوارع للاحتفال بسقوط الطاغية. وحدها الحكومة تقرر كيف ومتى يجب أن نتضامن، وكيف ومتى يجب أن نثور.
كان الحراك الشبابي الذي انطلق في الخامس عشر من آذار 2011 علامة بارزة. التخطيط المشترك بين الشباب الناشط في الضفّة وغزة، وتوحيد الشعار أمام الاعلام، ومحاولة استنساخ تجربة ميدان التحرير كلّها عوامل دفعت في اتجاه الاعتقاد بأنّ ما يجري سيحقق اختراقة نوعيّة. رفع الشباب شعار "إنهاء الانقسام" وطالبوا حماس وفتح بتغليب المصلحة الوطنيّة العليا على كل الخلافات الحزبيّة.
اشتغل الحراك، في حينه، على المزاج الشعبي، ووجه رسائل للعائلة الفلسطينيّة مطالبًا إياها بأنّ تخرج إلى الشارع. لاقت تلك الرسائل استقبالاً حَسنًا لكنّ أثره سرعان ما تلاشى بعد دخول التجربة حيّز التنفيذ، وانتهاء تأثير الدفقة العاطفيّة التي صاحبت شعارات الوحدة الوطنيّة وضرورة الوقوف صفًا واحدًا في مواجهة الاحتلال، تلك الشعارات التي طالما ابتذلها القياديّون الفلسطينيون على اختلاف مواقعهم ومسمياتهم.
في يوم التنفيذ، واجهت الحكومتان، في الضفة وغزة، الحراك الشبابي بقمع انتقائي وهدوء أعصاب شديد. أزيلت مظاهر الاعتصام في غزّة وجرى تفتيت الكتلة العاملة الشبابيّة في نفس الوقت الذي تمّ فيه الإيعاز للمناصرين الحزبيين بالنزول إلى الشوارع. هتف الفتحاويون في الضفّة والحمساويون في غزّة لإنهاء الانقسام، وقال رئيس وزراء الحكومة المقالة اسماعيل هنيّة "فهمتكم" على طريقته، داعيًا عبّاس لزيارة غزّة في أقرب فرصة ممكنة. في حين كانت وجبات الطعام التي تُرسل للمعتصمين على دوّار المنارة تأتي من مكتب الرئيس. موّهت التصريحات الايجابيّة المتبادلة المشهد، واختلط على إثرها الغثّ بالسمين.
محمود يحيى (23 عامًا) الذي شارك في حراك 15 آذار الشبابي من غزّة يقول إنّه ليس نادمًا على المشاركة، وإن كان يعتب على نفسه التي غيّبت الرومانسية عنها كثيرًا من قهر السياسة. "كنّا نريد توحيد وحشين"، يقول بعد عامين على نزوله ورفاقه إلى شوارع غزّة مطالبين بإنهاء الانقسام. يعتقد محمود اليوم أنّ ما يلزم لتحرّك الفلسطينيين ضد القهر الواقع عليهم، بكلّ مستوياته، ليس بعد متوفرًا لا في النظريّة ولا في التطبيق. يشاركه الرأي بشّار لبد الذي كان له اسهامه في حراك 15 آذار إبان وجوده في غزّة، ويؤكّد أن انتماءه للفكرة يمنعه من الندم، حتى مع النهاية التي انتهت اليها المطالب والطموحات.
لينا السعافين، وهي كاتبة وناشطة فلسطينيّة مقيمة في رام الله، تعتبر أن ما حدث في 15 آذار لا يرقى لمستوى الحراك الشعبي، وتراه أقرب إلى مجرّد فقّاعة نفختها رغبات نشطاء مؤسسات المجتمع المدني والراديكاليّون اليساريّون الذين اجتمعوا، في نادرة من النوادر، على فعل شيء ما. غياب القيادة وترك الدفّة للعواطف، وعدم الاتفاق على ماهيّة المطالب وسقفها، كلها عوامل دفعت في اتجاه انقسام من خرجوا للمطالبة بإنهاء الانقسام. مراد جادالله، وهو من "الحراك الشبابي المستقل" اعتبر شعار "الشعب يريد انهاء الانقسام" سطحيًا، وبرر استخدامه بمحاولات كسر النخبويّة التي تتميّز بها كل الفعاليّات في الفضاء العام.
في معرض الحديث عن نقاط ضعف الحراكات الشبابية الفلسطينية، تشير السعافين إلى أنّ كل محاولات التحريض الثوري ما زالت محصورة في خانة رد الفعل. ما يقوم به النشطاء ليس حركة تشتغل على الوعي وتقديم بدائل اجتماعيّة واقتصاديّة، بل فعل فَوقي مركزي يشعر عموم الناس تجاهه بالاغتراب. "تحدثنا كثيرًا عن توسيع رقعة نشاطاتنا إلى أماكن كنابلس وجنين، ولكن ذلك ظلّ كلامًا نظريًا"، تقول السعافين التي تعتبر اليوم أنّ الاحباط، بطريقة أو بأخرى، هو سيّد الموقف. أمّا أحمد البيقاوي، وهو ناشط فلسطيني مقيم في القاهرة فيعتبر أنّ عدم توجيه الفعل الاحتجاجي بشكل مباشر ضدّ السلطة، أو الاحتلال الاسرائيلي، كان خطأ قاتلاً. "الرومانسيّات حجّمت الحراك ومنعته من أن يؤدّي إلى ما هو أعظم" يقول البيقاوي الذي يعتبر أنّ تغييرًا حقيقيًا لن يحصل ما لم يتم الانعتاق من الاطار الذي تنشط فيه الحراكات مستغلّة الحالة الثوريّة التي لطالما كانت جزءًا من فضاء الفلسطينيين الاجتماعي.
عن قرب، يبدو الحراك الشبابي الفلسطيني اليوم، لاسيّما في رام الله، منقسمًا إلى معسكرات تتصادم حينًا، وتتفق أحيانًا. بين لفيف من النشطاء "التكنوقراط" الذين يعتبرون أيّ طرح جذري كالدعوة إلى الانتفاضة أو إسقاط السلطة بؤسًا سياسيًا سيقود فلسطين وقضيتها إلى مزيد من التعثّر، والذين "اعتنقوا" تقديم النضال الفلسطيني على أنّه مناهضة لدولة أبارتهايد على الطريقة الجنوب إفريقيّة ولا مشكلة حقيقيّة لديهم في العمل تحت سقف "الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة" التي يقودها، بالضرورة، الرئيس عبّاس ومن خلفه سلام فيّاض، وبين لفيف آخر ممن يمكن اعتبارهم ورثة اليسار الفلسطيني الذين لا زالت شعارات "الاسقاط" تداعب حسّهم الثوري.
أما غزّة فيصغُر فيها كلّ ما ليس متسقًا مع الحكومة والحزب الحاكم، حتى يكاد يكون مجهريًا. المساحة الجغرافيّة الضيقة، وتبعات الحصار الفكريّة، والتضحية باليومي من أجل الاستراتيجيّ والاشتباك الفجّ، من حين إلى آخر، مع إسرائيل، دفع بكثيرين إلى اعتزال العمل العام، وفقدان الأمل أو ووضعه على الرّف إلى إشعار آخر.
يُجمع أغلب المنشغلون بالفضاء العام الفلسطيني أنّ المستقبل القريب لن يحمل جديدًا على الصعيد النوعي. تمكّنت السلطة في الضفة وغزّة من بسط السيطرة على الجغرافيا والاقتصاد، ووجدت معادلة تمكنها من التعامل مع ما يبزغ من أفعال رفض واستنكار. هل ستظلّ رام الله والقدس وغزّة هادئة في حين تموج القاهرة ودمشق وتونس بالتغيّرات؟ لا أحد يحمل اجابة قطعية على هذا السؤال. الأكيد أنّ الحراك لا يكون ثوريًا إلا حين يفاجئ الجميع.